ابن معاوية لقد كان عبد الله بن الزبير يرى أن ( يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ) آخر رجل يصلح لخلافة المسلمين إن كان يصلح على الإطلاق ، لقد كان ( يزيد ) فاسدا في كل شيء ولم تكن له فضيلة واحدة تشفع له ، فكيف يبايعه الزبير ، لقد قال كلمة الرفض قوية صادعة لمعاوية وهو حيّ ، وها هو يقولها ليزيد بعد أن أصبح خليفة ، وأرسل إلى ابن الزبير يتوعّده بشر مصير ، هنالك قال ابن الزبير
لا أبايع السَّكير أبدا ) ثم أنشد
ولا ألين لغير الحق أسأله ___حتى يلين لِضِرْس الماضِغ الحَجر
الإمارة: ظل ابن الزبير أميرا للمؤمنين مُتَّخِذا من مكة المكرمة عاصمة خلافته ، باسطا حكمه على الحجاز و اليمن والبصرة و الكوفة وخُرسان والشام كلها عدا دمشق بعد أن بايعه أهل هذه الأمصار جميعا ، ولكن الأمويين لا يقرُّ قرارهم ولا يهدأ بالهم ، فيشنون عليه حروبا موصولة ، حتى جاء عهد ( عبد الملك بن مروان ) حين ندب لمهاجمة عبد الله في مكة واحدا من أشقى بني آدم وأكثرهم قسوة وإجراما ، ذلكم هو ( الحجاج الثقفي ) الذي قال عنه الإمام العادل عمر بن عبد العزيز
لو جاءت كل أمَّة بخطاياها ، وجئنا نحن بالحجّاج وحده ، لرجحناهم جميعا ) .
ا
لحجّاج: ذهب الحجّاج على رأس جيشه ومرتزقته لغزو مكة عاصمة ابن الزبير ، وحاصرها وأهلها قُرابة ستة أشهر مانعا عن الناس الماء والطعام ، كي يحملهم على ترك عبد الله بن الزبير وحيداً بلا جيش ولا أعوان ، وتحت وطأة الجوع القاتل استسلم الأكثرون ووجد عبد الله نفسه وحيدا ، وعلى الرغم من أن فُرص النجاة بنفسه وبحياته كانت لا تزال مُهَيّأة له ، فقد قرر أن يحمل مسئوليته الى النهاية وراح يقاتل جيش الحجّاج في شجاعة أسطورية وهو يومئذ في السبعين من عمره
لقد كان وضوح عبد الله -رضي الله عنه- مع نفسه وصدقه مع عقيدته ومبادئه ملازما له في أشد ساعات المحنة مع الحجّاج ، فهاهو يسمع فرقة من الأحباش ، وكانوا من أمهر الرماة والمقاتلين في جيش ابن الزبير ، يتحدثون عن الخليفة الراحل عثمان بحديث لا ورع فيه ولا إنصاف ، فعنَّفَهم وقال لهم ( والله ما أحبُّ أن أستظهر على عَدوي بمن يُبغض عثمان ) ثم صرفهم ابن الزبير عنه ، ولم يبالي أن يخسر مائتين من أكفأ الرماة عنده .
الساعات الأخيرة :
وفي الساعات الأخيرة من حياة عبد الله -رضي الله عنه- جرى هذا الحوار بينه وبين أمه العظيمة ( أسماء بنت أبي بكر ) فقد ذهب إليها ووضع أمامها الصورة الدقيقة لموقفه ومصيره الذي ينتظره ، فقالت له أمه
يا بني أنت أعلم بنفسك ، إن كنت تعلم أنك على حق وتدعو إلى حق ، فاصبر عليه حتى تموت في سبيله ، ولا تمكّن من رقبتك غِلمَان بني أمية ، وإن كنت تعلم أنك أردت الدنيا فلبِئس العبد أنت ، أهلكت نفسك وأهلكت من قُتِلَ معك ) قال عبد الله
والله يا أماه ما أردت الدنيا ولا رَكنْتُ إليها ، وما جُرْتُ في حكم الله أبداً ولا ظلمت ولا غَدَرْت ) قالت أمه أسماء
إني لأرجو الله أن يكون عزائي فيك حسنا إن سبَقْتَني الى الله أو سَبقْتُك ، اللهم ارحم طول قيامه في الليل ، وظمأه في الهواجر ، وبِرّه بأبيه وبي ، اللهم إني أسلمته لأمرك فيه ، ورضيت بما قضيت ، فأثِبْني في عبد الله بن الزبير ثواب الصابرين الشاكرين ) وتبادلا معا عناق الوداع وتحيته .
الشهيد: وبعد ساعة من الزمان انقضت في قتال مرير غير متكافيء ، تلقّى الشهيد ضربة الموت ، وأبى الحجّاج إلا أن يصلب الجثمان الهامد تشفياً وخِسة ، وقامت أم البطل وعمرها سبع وتسعون سنة لترى ولدها المصلوب ، وبكل قوة وقفت تجاهه لا تريم واقترب الحجّاج منها قائلا
يا أماه إن أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان قد أوصاني بك خيرا ، فهل لك من حاجة ؟) فصاحت به قائلة
لست لك بأم ، إنما أنا أمُّ هذا المصلوب على الثّنِيّة ، وما بي إليكم حاجة ، ولكني أحدّثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال
يخرج من ثقيف كذّاب ومُبير ) فأما الكذّاب فقد رأيناه ، وأما المُبير فلا أراه إلا أنت )
وتقدم عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- من أسماء مُعزِّيا وداعيا إياها الى الصبر، فأجابته قائلة
وماذا يمنعني من الصبر وقد أُهْدِيَ رأس يحيى بن زكريا إلى بَغيٍّ من بغايا بني إسرائيل ) يا لعظمتك يا ابنة الصدّيق ، أهناك كلمات أروع من هذه تقال للذين فصلوا رأس عبد الله بن الزبير عن جسده قبل أن يصلبوه ؟؟ أجل إن يكن رأس ابن الزبير قد قُدم هدية للحجاج ولعبد الملك ، فإن رأس نبي كريم هو يحيى عليه السلام قد قدم من قبل هدية ل ( سالومي ) بَغيّ حقيرة من بني إسرائيل ، ما أروع التشبيه وما أصدق الكلمات